فصل: العلاقات الدولية في القرآن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.العلاقات الدولية في القرآن:

223 - القرآن يذكر أنَّ الإنسانية كلها أمة واحدة، ويقول سبحانه وتعالى - في ذلك:
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213].
وإنَّ النصوص القرآنية تدل على وحدة الإنسانية في خلقها وأصلها، فالله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
فالرحم بين بني الإنسان موصولة، وإذا كانت الألوان مختلفة والألسنة مختلفة، والأجناس متباينة، فإن الأصل واحد، ويجب أن تكون العلاقات مبنية على الأصل الموحد، لا على التخالف الظاهر، ويجب أن تبنى الأمور على الجذع لا على الغصون المتفرعة.
ولقد حدَّ الله تعالى في كتابه الكريم حدود العلاقة الإنسانية، فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
فبهذا النص يبيِّن القرآن الكريم أنَّ العلاقة التي يجب أن تكون السائدة هي التعارف، والتعارف تكون معه المودة والتعاون وإقرار السلام وإحياء التراحم.
224 - وإذا كان التعارف هو الأصل الجامع للشعوب والقبائل والأجناس، فالإسلام لازم من لوازمه، هو الأساس لكل تعارف، فلا تعارف يوجب المودة مع الخصام والتناحر، والتحارب.
ولذلك كان الأصل في علاقات الدول بعضها مع بعض أو بعبارة أدق العلاقة بين المسلمين وغيرهم في السلم لا الحرب، فالمسلم ينظر إلى من يخالفه نظرة الود الراحم، لا العداوة القاطعة، ولذلك يقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 208، 209].
وإذا قامت الحرب بين المسلمين المؤمنين بالقرآن، فإن الإسلام يتشوّف للسلم يبتغيه، ولا يريد الاستمرار في مذبحة، فإن مالوا للسلم أجابهم المسلمون، ولو كانوا يتوقعون الخديعة، ما دامت لم تظهر أماراتها، ولذلك يقول سبحانه وتعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 61: 63].
وقد تَربَّت النفس المؤمنة على المحبة، فكانت تكره القتل والقتال إلَّا أن يكون ذلك جهادًا، ولذلك قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، وكان القتال بالجهاد لدفع الشر وتعميم الخير؛ لأنَّ الإسلام يدعو إلى الخير وإلى الفضيلة، وفضيلة الإسلام إيجابية وليست سلبية، فهي تدافع الرذيلة ولا تستسلم.
وإذا كان الوجود يتنازع فيه الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، فإنه لا بُدَّ من دفاع الخير، لقد أراد الإسلام للناس المحبة، ولكن أراد إبليس لهم البغضاء، فكان لا بُدَّ من النزاع بين مبدأ المحبة والبغضاء، وإلَّا يُدْفَع الشر ساد الفساد، وعمت الرذائل، لذلك شرع مبدأ الجهاد لدفع الشر، ومنع الفساد، ولقد قال الله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251].
لذلك شرع الجهاد في الإسلام، وأول الجهاد كان عقب الاعتداء وفتنة المسلمين وإيذائهم ليرجعوا عن دينهم، عندئذ أذن الله تعالى بالجهاد وأوجبه، فقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 39، 40].
ولقد قال تعالى آمرًا المؤمنين بالقتال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 190 - 193].
ويقول سبحانه وتعالى - مبينًا أنَّ القتال لأجل الاعتداء، وأنه ينتهي بنهايته: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: 28 - 40].
فما كان الإسلام ليستبيح دماء المخالفين لأجل المخالفة، بل يستبيحها لأنهم استباحوا دم أهله، ولأنهم أرادوا حمل المؤمنين على تغيير دينهم، وفتنوهم في ذلك، والفتنة كما قال تعالى أشد من القتل.
225 - ولأنَّ الإسلام في مشروعية الحرب هو دفع الاعتداء، والفتنة في الدين، فإن الإسلام أباح الهدنة إذا أرادها المخالفون، وحسنها، ودعا إليها، وقال تعالى في ذلك وقد أذن بالقتال العام:
{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 3، 4].
وفرض الإسلام هدنة إجباريّة على المسلمين إنِ التزم بها المخالفون، وهي ألَّا يكون قتال في الأشهر الحرم، وهي ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان.
وأوجب ألَّا يبتدئ فيها المسلمون قتالًا إلَّا أن يكون امتدادًا لقتال والسكوت يضر، ولقد قال تعالى في ذلك: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36].
ولا قتال في الأشهر الحرم، ما دام المخالفون يحترموا، فإن انتهكوها فلا يصح لأهل الإيمان أن يظلموا فيهنَّ أنفسهم، ويقول سبحانه وتعالى - في ذلك: الشَّهْرُ ويدل - ثالثًا - على أنَّ الذين يتردَّدون في موقفهم فهم يريدون السلامة لأنفسهم بمداهنة قومهم الذين يقاتلونهم ومداهنة المؤمنين، فهؤلاء يحكم عليهم بالواقع، فإن لم يقاتلوا المؤمنين فلا سبيل عليهم، وإلَّا كان قتالهم حقًّا بذلك الموقف البادي.
وإنَّ هذا التقسيم يدل على أنَّ القرآن الكريم يقرِّر نظرية الحياد، ويحترم المحايدين، فلا يرفع عليهم سيفًا، فالناس على ذلك في نظر القرآن الكريم ثلاثة أقسام:
محاربون للمسلمين: وهؤلاء يجب قتالهم لرد اعتدائهم، والأخذ بالنواصي والأقدام من غير هوادة، وهؤلاء هم المعتدون بالقتال أو بفتنة المؤمنين كما قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14].
والقسم الثاني: أهل الميثاق الذين بينهم وبين المؤمنين ميثاق عدم الاعتداء، وهؤلاء يحترم ميثاقهم، بل يمتدُّ احترام الميثاق إلى الذين لهم به صلة، بحيث يكون سلمهم واحدة وحربهم واحدة.
والقسم الثالث: المحايدون الذين لا يكونون مع المؤمنين، ولا مع أعدائهم واقعًا؛ لأنه ما دام الأصل في العلاقات هو السلم إلَّا إذا حدث ما يوجب القتال، فإن لم يكن منهم ما يوجبه فإنَّه لا سبيل لأحد عليهم.
وقد فهم بعض الذين لا يدرسون المسائل دراسة فاحصة مستقرَّة أنَّه لا موضع للحياد في الفقه الإسلامي، وذلك كلام من لم يمحص الحقائق؛ لأن القرآن الكريم كما ترى جعل للحياد موضعًا، وهم الذين يعتزولون الحرب مع المسلمين أو ضدهم، فقال: إنه لا سبيل عليهم، فكان الحياد ثابتًا بنص القرآن الكريم.
227 - وإذا تلونا بعض آيات القرآن الكريم التي فتحت باب القتال جهادًا في سبيل الله نجدها صرَّحت بأنَّ القتال كان للاعتداء من غيرنا بطريقتين: قتل المؤمنين والاعتداء عليهم، وإخراجهم من ديارهم، والثاني: بفتنتهم في دينهم، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 29] أي: كل إنسان يعتنق ما يعتنق، لا رقيب على قلبه إلَّا الله تعالى، فلا إكراه في الدين ولا فتنة فيه.
وهنا يسأل سائل: ألم يبح القرآن القتال إلَّا دفاعًا أو ردًّا للاعتداء، ولم يبح الهجوم؟ ونقول في الجواب عن ذلك: إن القرآن صريح في أنه لا يباح القتال مع من ألقى السلام، وبذلك يكون من المؤكد أنَّ الإسلام لا يبيح الهجوم على الآمنين الذين يلقون السلام وإنَّ ذلك حق لا ريب؛ لأنَّه لا يباح الهجوم على من لا يعلن العداوة على المؤمنين، ولكن هل يمنع الهجوم مطلقًا؟ وللجواب على ذلك نقول:
إنَّ الذي استنبط من صريح الآيات التي تلوناها أننا لا نحارب إلَّا من اعتدى علينا أو فتننا عن ديننا، ومن الفتنة في الدِّين أن يمنع المتديّن من إقامة شعائر دينه، وأن يحال بين الحق والدعوة إليه.
إنه في هذه الحال يكون القتال، ولكن يزاد عليها إذا قامت العداوة التي ابتدأها غير المؤمنين بالاعتداء على المؤمنين، ومحاولة غزوهم في ديارهم، أو فتنتهم في دينهم، فإنَّه عندئذ يتعيِّن قتال العدو المترصِّد الذي لا يألو المؤمنين إلَّا خبالًا ويود عنتهم وإرهاقهم، فلا يكون الاقتصار في الحرب على الدفاع بأن ينتظر المؤمنون حتى يهاجمهم الأعداء، وقد بدت عداوتهم وأعلنوها صريحة لا إيهام فيها، إنه كما قال بطل الجهاد علي بن أبي طالب: (ما غُزِيَ قوم في عقر دارهم إلّا ذلوا).
وبذلك نفسِّر قولنا: إنَّ المؤمنين ما قاتلوا إلَّا ردًّا للاعتداء بمثله أو توقفه، ولقد تلونا الآيات التي تنهى عن قتل من لا يعتدي علينا، ومن يعتزل قتالنا، ومن يلقي علينا السلام.
وإذا ظهر الاعتداء وما يسكت عنه إلَّا للاستعداد لمثله، كان القتال مشروعًا بكل ضروبه لهؤلاء الأعداء بالهجوم على مأمنهم، بالقصد إلى مكامنهم، ولذلك يقول الله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ، كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ، اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة: 5 - 10].
ويقول - تبارك وتعالى: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 13 - 15].
وترى من هذا النص أنَّ الأساس هو الابتداء بالاعتداء، فإذا ابتدأ الاعتداء وجب القتال بكل ضروبه دفاعًا وهجومًا، بل إنَّ خير الدفاع ما كان هجومًا، ولا سبيل لإنهاء القتال مع المعتدين إلَّا بإحدى خصال ثلاث: إما الإسلام، وأن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ويكونوا إخوانًا، وإمَّا بالعهد يعاهدونه ويوفّون به، فما استقاموا فالعهد قائم، وإلَّا فإنه ينطبق عليهم قول الله سبحانه وتعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]، وإمَّا استسلام، أو يخضعوا لأهل الإيمان.
وقد قال تعالى في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 7، 8].
ويقول سبحانه: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 4].
328 - وننتهي من هذا التتبُّع إلى حقيقتين ثابتتين:
إحداهما: إنَّ محاربة المؤمنين لأيِّ قوم لا تكون إلَّا عند اعتدائهم بإخراج المسلمين من ديارهم، أو إيذائهم في دينهم، ومن الإيذاء أن يمنع الدعاة إلى الإيمان من أن يلاقوا الشعوب، ويعرِّفوهم بالحق، ومن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر؛ لأنه لا إكراه في الدين، ولكن بعد أن يتبيِّن الحق من الباطل، والغي من الرشد، وذلك لقوله سبحانه وتعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256].
الحقيقة الثانية: إنَّه إذا كان الاعتداء بأيِّ ضرب من ضروبه، فإنَّ باب الجهاد يفتح دفاعًا وهجومًا وغزوًا والتقاء، لا يمنع مانع إلَّا ما توجبه الفضيلة.
وقد فهم بعض الناس أنَّ القتال في الإسلام لا يكون إلَّا دفاعًا، ولا يكون هجومًا، وذلك خطأ، والحق أنَّ القتال لا يكون لقوم إلَّا إذا اعتدوا، فإن كان الاعتداء حل قتالهم دفاعًا وهجومًا، وهم في الحالين المعتدون إلَّا أن يتوبوا أو يعاهدوا ويستقيموا.
وليس قتال المؤمنين ليكون باب الدعوة إلى الإسلام مفتوحًا بعد الاعتداء من المؤمنين، بل هو رد للاعتداء؛ لأنَّ القتال لأجل الدعوة لا يكون إلَّا بعد أن يرسل المؤمنون دعاة للإيمان، فإن أجاب بعضهم، ولم يضطهد في اعتقاده، فإنه لا قتال، ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، وإن اضطهد كان الاعتداء بالفتنة، فوجب القتال ردًّا للاعتداء بمثله.
وقد جاء الإسلام في عصر الملوك المتجبِّرين الذين كانوا يؤذون رعاياهم، فكان منهم الاضطهاد لكل من تبلغه الدعوة ويؤمن، وما أرسل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الجيوش إلى الشام إلَّا بعد أنِ اضطهد الروم المسيطرون المسلمين الذين أسلموا في الشام وقتلوهم، وما حارب الذين جاءوا من بعد الفرس إلّا لأنَّ كسرى حاول أن يرسل من يقتل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.
ويلاحظ من يتلو آيات الأمر بالقتال أنَّ فيها النهي عن الاعتداء، فالله تعالى يقول: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].
والاعتداء المنهي عنه قسمان:
أحدهما: الاعتداء بالقتال على قوم لم يعتدوا على المؤمنين، وهم الذين ما جعل الله عليه سبيلًا.
ثانيهما: الاعتداء في القتال، فيقتل من لا يقاتل، فيقتل مثلًا الشيوخ والنساء والذرية، فإن هذا اعتداء في القتال منهي عنه، ولذلك يقول الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194].
وإنَّ من مقتضى هذه التقوى ألَّا يقاتلوا من لا يقاتل، وألَّا يقطعوا الأشجار، وألَّا ينتهكوا الأعراض، وألَّا يستبيحوا الأموال بغير حقها.
ويلاحظ أنَّ القتال في الماضي كان لا يتجاوز معسكر الحكام والجيوش، والعلاقة بين المسلمين وشعوب الملك أو الرئيس القاتل قائمة كأنه لا حرب والسلام قائم.
إنما الحرب لمن يحادّون الله ورسوله؛ إذ يقول الله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].
وأولئك الذين يحادّون الله ورسوله هم الذين حاربوا المسلمين، وأعلنوا العداوة وأخذوا يتربَّصون بهم الدوائر لا يرقبون فيهم إلًّا ولا ذمَّة.
وما عدا هؤلاء فإنَّ السلم هي العلاقة الدائمة والمودة إن وجدت مقتضياتها، وقد نصَّ القرآن الكريم على ذلك، فقال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8، 9].
فالمودة موصولة ما لم يكن الاعتداء؛ إذ عسى أن تعود الصلة حتى يبين الأعداء، كما يقول الله سبحانه وتعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 7].